ما معنى محو شعب، وأمّة، وثقافة، وهويّة؟ في غزّة نجد الجواب | ترجمة

من آثار التدمير الصهيونيّ للمسجد العمريّ في غزّة | علي جاد الله.

 

العنوان الأصليّ: What does it mean to erase a people – a nation, culture, identity? In Gaza, we are beginning to find out.

الكاتب: Nesrine Malik.

المصدر: The Guardian.

 


 

أبدأ هذه الزاوية بسؤالكم؛ ما الّذي يربطكم بوطنكم ويجعلكم تشعرون بأنّه وطنكم وأنّكم تملكونه؟ ما الّذي يعطيكم إحساسًا بالهويّة والانتماء؟ ثمّة الروابط المادّيّة بالطبع؛ أعني مكان إقامتكم، ومكان ولادتكم، حيث تعيش عائلاتكم وأصدقاؤكم. ولكن في العمق، تحت كلّ هذه الجوانب العمليّة، أعتقد أنّ ثمّة كلّ الأشياء الأخرى الّتي لا تفكّرون فيها بشكل واعٍ، وتأخذونها كمسلّمات: الموسيقى، والأدب، والفكاهة، والفنّ، والسينما، والتلفزيون؛ كلّ العلامات المجرّدة لهويّة تشكّل نسيجًا يمتدّ بينكم وبين وطنكم.

أسأل أسئلتي هذه؛ لأنّ في الجانب الآخر من سؤال: "ما الّذي يصنع شعبًا؟"، يقع سؤال: "ما الّذي يمحو شعبًا؟"، وما يتكشّف في غزّة اليوم يجعل هذا السؤال ملحًّا. ذلك أنّه، إلى جانب فظائع الموت والتشريد، يحدث شيء آخر؛ شيء وجوديّ، نادرًا ما يُعْترَف به، قد يكون أمرًا لا رجعة فيه.

في الجانب الآخر من سؤال: "ما الّذي يصنع شعبًا؟"، يقع سؤال: "ما الّذي يمحو شعبًا؟"، وما يتكشّف في غزّة اليوم يجعل هذا السؤال ملحًّا. ذلك أنّه، إلى جانب فظائع الموت والتشريد، يحدث شيء آخر؛ شيء وجوديّ...

هذا هو الوضع في غزّة؛ في وقت سابق من هذا الشهر، دُمِّر أقدم مسجد في غزّة بغارات جوّيّة إسرائيليّة. كان «المسجد العمريّ» في الأصل كنيسة بيزنطيّة تعود إلى القرن الخامس، وكان علامة بارزة في غزّة: 44 ألف قدم مربّعة من التاريخ والهندسة المعماريّة والتراث الثقافيّ، لكنّه كان أيضًا موقعًا حيًّا للممارسات المعاصرة والعبادة. أخبر أحد سكّان غزّة، يبلغ من العمر 45 عامًا، وكالة «رويترز»: "كنت أصلّي في «المسجد العمريّ»، وألعب حوله طوال طفولتي". وقال إنّ إسرائيل "تحاول محو ذكرياتنا".

كما تضرّرت «كنيسة القدّيس برفيريوس»؛ أقدم كنيسة في غزّة، وتعود أيضًا إلى القرن الخامس، وتُعْتَبَر ثالث أقدم كنيسة في العالم، في غارة أخرى في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023. كانت تأوي نازحين، من بينهم أعضاء في أقدم مجتمع مسيحيّ في العالم، وهو مجتمع يعود إلى القرن الأوّل. حتّى الآن، تضرّر أو دُمِّر أكثر من 100 موقع تراثيّ في غزّة؛ من بينها مقبرة رومانيّة عمرها أكثر من 2000 عام، و«متحف رفح» الّذي كان مخصّصًا لتراث المنطقة الدينيّ والمعماريّ الطويل والمتنوّع.

يُقْتلَع الماضي، ويُبْتَر المستقبل أيضًا. دُمِّرت «الجامعة الإسلاميّة» في غزّة؛ أوّل مؤسّسة للتعليم العالي في قطاع غزّة، وقد تأسّست في عام 1978، وتُدرّب، من بين آخرين، أطبّاء غزّة ومهندسيها، إلى جانب أكثر من 200 مدرسة. قُتِل سفيان تايه؛ رئيس الجامعة، مع عائلته في غارة جوّيّة، وهو الّذي كان يشغل مقعد «اليونسكو» للعلوم الفيزيائيّة والفلكيّة وعلوم الفضاء في فلسطين. ومن بين الأكاديميّين البارزين الآخرين الّذين قُتِلوا كان الدكتور محمّد شبير؛ عالم الأحياء الدقيقة، والشاعر والكاتب المرموق الدكتور رفعت العرعير، الّذي انتشرت قصيدته «إذا كان يجب أن أموت» على نطاق واسع بعد مقتله.

"إذا كان يجب أن أموت"، كتب العرّير، "فلتكن قصّة". لكن حتّى تلك القصّة، قصّة تشهد على الحقيقة، لتُنْسَج في الوعي والتاريخ الوطنيّ الغزّاويّ والفلسطينيّ، ستكون روايتها بدقّة صعبة؛ لأنّ الصحافيّين يُقْتَلون أيضًا. حتّى الأسبوع الماضي، أكثر من 60 منهم قُتِل. بعض الناجين، مثل وائل الدحدوح من «الجزيرة»، اضطرّوا إلى الاستمرار في العمل وسط مأساة وفاة أفراد أسرهم. في الـ 15 من كانون الثاني (ديسمبر) 2023 أُصيب الدحدوح في غارة جوّيّة على مدرسة. لم ينجُ مصوّره. قالت «لجنة حماية الصحافيّين»، وهي منظّمة أمريكيّة غير ربحيّة، إنّ الّذين يغطّون الحرب يخاطرون، ليس فقط بالموت أو الإصابة، لكن أيضًا "بالاعتداءات المتعدّدة، والتهديدات، والهجمات الإلكترونيّة، والرقابة، وقتل أفراد عائلاتهم".

وتتعرّض القدرة على رواية هذه القصص علنًا للهجوم، تتعرّض الطقوس الخاصّة بالحداد والتذكّر للتهديد أيضًا. وفقًا لتحقيق أجرته صحيفة «نيويورك تايمز»؛ تجرف القوّات البرّيّة الإسرائيليّة المقابر في تقدّمها نحو قطاع غزّة، مدمّرة ما لا يقلّ عن ستّ منها. نشر أحمد مسعود، كاتب فلسطينيّ بريطانيّ من غزّة، صورة له وهو يزور قبر والده، إلى جانب فيديو لأنقاضه. كتب: "هذه المقبرة في مخيّم جباليا"، حيث دُفِن والده. "زرته في أيّار (مايو). الآن دمّرت الدبّابات الإسرائيليّة المقبرة، وقبر والدي اختفى. لن أتمكّن من زيارته أو التحدّث إليه مرّة أخرى".

فجوة في الذاكرة آخذة في التشكّل؛ تُدَمَّر المكتبات والمتاحف، وما يضيع في الوثائق الّتي تحترق ينضمّ إلى خسارة أكبر موجودة أصلًا في سجلّات الحفظ. في هذه الأثناء، أعداد القتلى كبيرة إلى درجة أنّ عائلات بأكملها تختفي. والنتيجة تشبه تمزيق صفحات من كتاب. قالت دينا مطر؛ أستاذة في «جامعة لندن»، لصحيفة «فاينانشال تايمز» إنّ "مثل هذه الخسارة يؤدّي إلى محو الذكريات والهويّات المشتركة للناجين. تُعْتبَر الذكرى أمرًا مهمًّا. هذه عناصر أساسيّة عندما تريد تجميع تاريخ الحيوات العاديّة وقصصها".

تُعْتبَر الذكرى مهمّة، ومن السهل أن ننسى، وسط مشاهد الموت والدمار منذ تشرين الأوّل (أكتوبر)، أنّ قطاع غزّة هو مكان حقيقيّ كان موجودًا خلف السياج، وتحت قيود مشدّدة، ولم يكن مجرّد سجن مفتوح. له مدن متوسّطيّة بشوارع محاطة بالأشجار وورود المجنونة والجهنّميّة، وشاطئ يوفّر الراحة من الحرّ وانقطاع التيّار الكهربائيّ، الكثير من ذلك الآن مدمّر أو مجرّف.

فجوة في الذاكرة آخذة في التشكّل؛ تُدَمَّر المكتبات والمتاحف، وما يضيع في الوثائق الّتي تحترق ينضمّ إلى خسارة أكبر موجودة أصلًا في سجلّات الحفظ.

قطاع غزّة أيضًا مكان تزدهر فيه الفنون والموسيقى والشعر والرواية، كما هو طبيعيّ عند أيّ شعب يُعْطَى الفرصة للتعبير عن نفسه، بغضّ النظر عن صعوبة الظروف فهذه الأشياء أيضًا تختفي الآن. قُتِلت الفنّانة هبة زقّوت، الّتي كانت ترسم المواقع المقدّسة والنساء الفلسطينيّات في ملابسهنّ التقليديّة المطرّزة، في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، بعد أيّام قليلة فقط من نشرها فيديو على الإنترنت، قائلة: "أعتبر الفنّ رسالة أوصلها إلى العالم الخارجيّ؛ من خلال تعبيري عن القضيّة والهويّة الفلسطينيّتين".

محمّد سامي قريقع، فنّان آخر، كان يحتمي داخل مستشفًى، ونشر على فيسبوك أنّه يوثّق التجربة؛ "لنقل الأخبار والأحداث الّتي تحدث داخل المستشفى، ملتقطًا مجموعة من التفاصيل المؤلمة بكاميرا هاتفي، بما في ذلك الصور والفيديوهات والصوت والكتابة والرسم، وما إلى ذلك... أنا أجمع العديد من هذه القصص بتقنيّات مختلفة". بعد ثلاثة أيّام، قُتِل عندما تعرّضت المستشفى لضربة صاروخيّة.

هكذا يبدو الأمر عندما يتعرّض شعب للمحو؛ باختصار، لإلغاء هيكل الانتماء، الّذي نأخذه جميعًا أمرًا مفروغًا منه، إلى درجة أنّه، بغضّ النظر عن عدد الغزّيّين الناجين، يصبح هناك على مرّ الزمن أقلّ وأقلّ لربطهم معًا بوصفهم كلًّا مكتملًا. هكذا يبدو الأمر عندما تحرمهم من سرد قصّتهم؛ من إنتاج فنّهم؛ من مشاركة العالم موسيقاهم وأغانيهم وأشعارهم، ومن تاريخ مركزيّ يعيش في آثارهم، ومساجدهم، وكنائسهم، وحتّى في قبورهم.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وشوؤنها وتناولها عالميًّا.